فصل: مسألة ما جاء في أنَّ الحُمّى مِنْ فَيْح جَهَنَّمَ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البيان والتحصيل والشرح والتوجيه والتعليل لمسائل المستخرجة



.مسألة ما جاء في أنَّ الحُمّى مِنْ فَيْح جَهَنَّمَ:

في أنَّ الحُمّى مِنْ فَيْح جَهَنَّمَ قال مالك: عَن نَافِعٍ عَن ابن عُمَرَ إِنَّ النَّبيً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ الْحُمّى مِنْ فيْح جَهًنّمَ، فأبْرِدُوهَا بِالْمَاءِ».
قال محمد بن رشد: أعلم النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ بهذا الحديث أن ما يجده المحموم من حر الحمى هو من حر جهنم، كما أعلم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن ما يجده الناس من شدة الحر، هو من فيح جهنم، فوجب الِإيمان بذلك، وأن اللَّه عز وجل يبتلي المؤمن بالحمى من فيح جهنم، ليثيبه على ذلك، وقد كان مجاهد يقول في قول اللَّه عز وجل: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلا وَارِدُهَا} [مريم: 71] أن ورود المؤمن هو ما يصيبه في الدنيا من حمى ومرض، وذلك حظ من النار. وروي ذلك في حديث عَنْ أبِي صَالِحٍ «عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ أنَّهُ قَالَ: خَرَجَ رسولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُود رَجلاً مِنْ أصْحَابِهِ وَعِكاً وَأنَا مَعَهُ ثُمِّ قَالَ: إِنَ اللَّهَ عًزّ وَجَلَّ قَالَ: هِيَ نَارِي أسَلِّطُهَا عَلَى عَبْدِي الْمُؤْمِنِ لِتَكُون حَظَّهُ مِنَ النَّارِ فِي الآخِرَة».

.مسألة ما يروى عن ابن عمر أنه كان يدعو به:

فيما يروى عن ابن عمر أنه كان يدعو به قال مالك عن نافع، قال: كان ابن عمر يقول: اللَّهُمَّ أذهِبْ عَنِّي الرَجْزَ.
قال محمد بن رشد: الرجز العذاب، قال عز وجل: {فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ} [الأعراف: 135] أي العذاب الذي أرسله عليهم من الطوفان والجراد والقمل والضفادع. وقد يراد بالعذاب وسوسة الشيطان، لأنها مُؤدية إلى العذاب. قال عز وجل: {إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ} [الأنفال: 11] إلى قوله: {رِجْزَ الشَّيْطَانِ} [الأنفال: 11] أي وسوسته، وهو الذي أراد ابن عمر بما دعا به. واللَّه أعلم، لأن من سلم من وسوسة الشيطان بعصيانه، وترك طاعته، فقد نجا، واستوجب جنة المأوى. فخير ما يدعو به العبد ويرغب فيه إلى ربه أن يعصمه من الشيطان الرجيم. وباللَّه التوفيق.

.مسألة وصايا عمر بن الخطاب:

فيما ذكر عن عمر بن الخطاب رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أنه أوصى به عن زيد بن أسلم أنَّ عمرَ بْنَ الْخَطَّاب قَالَ: أوصِيكُم بِالأنْصَارِ خَيْراً وأوصِيكُم بِالْعَرَب خَيْراً وَأوصِيكُم بَأهل الذِّمَةَ خَيْراً. وقال مالك عن يحيى بن سعيدَ، أن عمر بن الخطاب كان يقول: مَنْ كَانَتْ لَهُ أرْضٌ فَلْيَعْمُرْهَا، ومن كان له مال فليصل فيوشك أن يأتي من لا يعطي إلا من أحب.
قال محمد بن رشد: المعنى في توصيته بمن وصى بهم أن يُحفظوا ويُراعوا ويُحسَن إِلى مُحسنهم، ويتجاوز عن مسيئهم. وإنما أوصى بالأنصار لتقدمهم في الِإسلام، وسابقتهم فيه، ولأن النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ أوصى بهم، وَدَعَا لَهُم وَلِأبْنَائِهِم، فَقَالَ: «اللَّهًمَّ اغْفِرْ لِلأنْصَارِ، وَلأِبْنَاء الأنْصَارِ». وإنما خص العرب بالتوصية بهم دون غيرهم، من العجم، لمكانتهم من النسب، ولما خشِي أن يُجْهَلَ عليهم، لما في كثيرٍ منهم من الجهل، وإنما أوصى بأهل الذمة مخافة أن تُستخف إذايتُهم من أجل كفرهم. وَقَدْ قَالَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ ظَلَمَ مُعَاهَداً أوْ ذِمِّيَاَ لَمْ يَرَحْ رَائِحَةَ الْجَنَّةِ، وإنَّ رَائِحَتَها لَتُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ خَمْسِمِائَةِ سَنَةٍ». وإنما أوصى الناس بحفظ أموالهم بالقيام عليها، مخافة أن يضيعوها اتكالاً منهم على أعطيات الِإمام. وقد نهى رسول اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَن إِضَاعَةِ الْمَال. وهذا من إضاعته. وقد قيل في تأويله غيرُ ما وَجْهٍ. وقول عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: فَيُوشِكُ أن يَأتِيَ مَن لَا يُعْطِي إِلاَّ مَنْ أحبَّ. معناه: فيغلب على الظن أن ذلك يكون فكان كما غلب على ظنه. وقد كان رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يقول الشيء على ظنه، ويرأسه، فيكون على ما قال. من ذلك قوله: وَافَقْتُ ربِّيِّ فِي ثَلَاثٍ. منها: آيَةُ الْحِجَابِ، وآيَةُ فِدَاءِ الأسْرَى، وَمَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وقد قال رسول اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «سَيَكُونُ بَعْدِي مُحَدَّثُونَ، فَإِن يَكُنْ فَعُمَرُ، فَقَال: إِنَّ اللَّهَ ضَرَبَ عَلَى قَلْبِ عمَرَ وَلِسَانِهِ بِالصِّدْقِ» وروي عن علي بن أبي طالب أنه قال: كنّا نَعُدّ السَّكِينَةَ تَنْطِقُ على لِسان عُمر.
وأما قوله: أدركْ أهلَك فقد احترقوا للذي سأله عن اسمه، فقال حمزة: فقال: ابن من؟ قال: ابن شهاب. قال: مِمّن؟ قال من الحرقة، قال: أين مسكنك؟ قال: بحرة النار، قال: بأيتها؟ قال: بذاتِ لظى. فكان كما قال، فإنما ذلك واللَّه أعلم من معنى قول النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ: «إِنَّ الْبَلاَءَ مًوَكَّلٌ بِالْقَوْل». وباللَّه التوفيق.

.مسألة ما يقاتل عليه الناس:

فيما يقاتل عليه الناس قال مالك عن أبي الزناد عن الأعرج، عن أبي هريرة عن رسول اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «أُمِرْت أن أقَاتِلَ النَّاسَ حًتّى يَقُولُوا لَا إِلَهَ إِلّاَ اللَّهَ فَإِذَا قَالُوهَا عَصَمُوا مِنِّي مَاءهُم وأَمْوَالَهُم إِلَّا بِحَقِّهَا وَحِسَابُهُم عَلَى اللَّهِ».
قال محمد بن رشد: معنى قوله: حَتَّى يَقُولُوا لَا إلهَ إلَّا اللَّهُ أي حتى يسلموا فيقولوا لا إلهَ إلّاَ اللهُ وَأَنَّ مُحَمَّداً رَسُولُ اللهِ ويلتزموا سائر قواعد الِإسلام. وهي الصلاة والزكاة والصيام، وحج بيت الله الحرام، من استطاع إليه سبيلاً، لأن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «بُنيَ الِإسْلَامُ عَلَى خَمْس شَهَادَة أَن لَا إله إلاَّ الله وَإقَام الصَّلاَةِ وَإيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَصَوْم رَمَضَانَ، وَحَجِّ بَيْتِ اللِّهِ الْحَرَام» لَا أن قتالهم يحرم بمجرد قول لا اله إلا الله فقد قال أبو بكر الصديق: والله لأقَاتِلَنَّ من فرَّق بَيْنَ الصَلاَةِ وَالزَّكَاةِ. وقد روي هذا الحديث بألفاظ مختلفة ذُكر في بعضها مع شهادة أن لا اله إلا اللَّه الصلاة، وفي بعضها الصلاةُ والزكاة، وفي بعضها الصيام والصلاة والزكاة وصيام شهر رمضان. وأداءُ الخمس وهو بين ما ذهبنا إليه من أنَّ الشرائع داخلة في الحديث بالمعنى، وإن لم تذكر فيه. وقد ذهب بعض من تكلم على معاني الحديث أن ما روي في هذا الحديث من اختلاف الألفاظ فيه، محمولة على ظاهرها من التعارض، لأن المعنى فيها أنها مرتبة على الأزمان، لأن الفرائض كانت تَنْزِلُ شيئاً بعد شيء، فالحديث الذي لم يذكر فيه شيء من الشرائع، كان في أول الإسلام قبل فرض الصلاة، والحديث الذي ذكر فيه الصلاة، ولم يذكر فيه الزكاة، كان قبل فرض الزكاة، والحديث الذي ذكر فيه الزكاة والصلاة، ولم يذكر فيه صيام رمضان كان قبل فرض صيام رمضان. والحديث الذي ذكر فيه صيام رمضان متأخراً عن الأحاديث الأول، والذي ذكرناه وذهبنا إليه في تأويل الحديث أولى والله أعلم. ومعنى قوله عَلَيْهِ السَّلَامُ: وَحِسَابُهُم عَلَى اللَّهِ أي أنه هو يحاسبهم بما يعلمه من صدق نياتهم في ذلك، إذ لا يعلم حقيقة ذلك سواه. فإن اعتقدوا بقلوبهم ما قالوه بألسنتهم، كانوا مسلمين مؤمنين، وانتفعوا بإسلامهم، وإن لم يعتقدوه بقلوبهم، لم ينتفعوا بإسلامهم. وقد تكلمنا في صدر كتاب المقدمات على حكم الِإيمان والِإسلام والفرق بينهما عند من رآه وبالله التوفيق.

.مسألة ترك غسل الجمعة:

في جهل تارك غسل الجمعة قال مالك: بلغني عن ابن مسعود أنه سئل عن شيء فقال: لئن جهلت هذا لأنا أجهل من تارك غسل يوم الجمعة.
قال محمد بن رشد: المعنى في هذا بين لأنه لا يترك سنة الغسل يوم الجمعة إلا من جهل السنة في ذلك، ولم يعرف قدرها لمن التزمها، ولم يضيعها من الفضل في ذلك، أو علمه فحرم التوفيق. وَقَدْ وَبَّخَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَاب عُثْمَانَ بْن عَفانَ، إذْ جَاءَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَهُوَ يَخْطُبُ، فَقَالَ: أَيَّةُ سَاعَةِ هَذِهِ؟ فَقَالَ يَا أميرَ الْمُؤْمِنِين: انْقَلَبْتُ مِن السُّوقِ، فَسَمِعْتُ النِّدَاءَ، فَمَا زِدْت عَلى أن تَوَضَّأت، فَقَالَ عُمَرُ وَالْوُضُوءَ أَيْضاً؟ وَقَدْ عَلِمْتَ أَن رسولَ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كانَ يَأمرُ بِالْغُسل. وبالله تعالى التوفيق.

.مسألة هل يكون الرجل أحق بمجلسه إذا قام عنه ثم رجع إليه:

في هل يكون الرجل أحق بمجلسه إذا قام عنه ثم رجع إليه؟ وسئل مالك عن الرجل يقومُ من المجلس، فقيل له: إن بعض الناس يزعم أنه إذا قام الرجل من مجلسه ثم رجع إليه، إنه أحق به، فقال: سمعت في ذلك شيئاً، وإنه لحسن إن كان إتيانه قريباً، وإن تباعد ذلك حتى يذهب بعيداً ونحو ذلك، فلا أرى ذلك له. وإن هذا لمن محاسن الأخلاق.
قال محمد بن رشد: قوله: وإنه لحسن إن كان إتيانه قريباً، معناه: إذا قام عنه على أن لا يرجع إليه، وأما إن قام عنه على أن يرجع إليه فهو أحق به إن رجع بالقرب، فتحصيل هذا أنه إن قام عنه على أن لا يرجع إليه فرجع بالقرب، حسُن أن يقوم له عنه من جلس بعده فيه، وإن لم يرجع بالقرب، لم يكن ذلك عليه في الاستحسان، وإن قام عنه على أن يعود إليه فعاد إليه بالقرب، كان أحق به، ووجب على من جلس فيه بعده أن يقوم له عنه، وإن لم يعد إليه بالقرب، حسُن أن يقوم له عنه مَن جلس فيه بعده، ولم يجب ذلك عليه. وبالله التوفيق.

.مسألة ما جاء في أن المرء مع من أحب:

قال مالك: عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة: عَن أَنَسٍ بْنِ مَالِكٍ «إنَّ أعرابِياً أدْرَكَ النبيَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَقَالَ: مَتَى تَقُومُ السَّاعَة؟ فَقَالَ: وَمَا أَعْدَدْتَ لَهَا، قَالَ لَا شَيْءَ، وَاللَّهِ لأنِّي قَلِيلُ الصَّلَاةِ، قَلِيلُ الصِّيَام، إلَّا أَنِّي أُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَالَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَإنَّكَ مَعَ مَن أحببت».
قال محمد بن رشد: قوله: إني لقليل الصلاة، قليل الصيام، معناه في النافلة لا في الفريضة، لأن من ترك بعض الصلاة المفروضة، والصيام المفروض، مضيِّعاً لذلك أو مفرطاً فيه فمذهب ابن حبيب فيه أنه كافر. وذهب غيره إلى أنه لا يكون كافراً بترك شيء من الشرائع إلا بترك الصلاة خاصة، تعلقاً بظاهر ما روي عن النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ من قوله: مَن تَرَكَ الصَّلاَةَ فَقَدْ كَفَرَ، وَمَن تَرَكَ الصَلَاةَ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلهُ، وَمَنْ تَرَكَ الصَّلاَةَ فَقَدْ حُشِرَ مَعَ هَامَانَ وَقَارُونَ. والصحيح أنه لا يكون كافراً وإن تركها مضيعاً لها أو مفرطاً فيها، إذا كان مقراً بفرضها. قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «خَمْسُ صَلَوَاتٍ كَتَبَهُن اللهُ عَلَى الْعِبَادِ فِي الْيَوْم وَاللَّيلة، مَن جَاءَ بِهِن لَمْ يُضَيًعْ مِنْهُن شَيئَاَ اسْتِخْفَافاً بِهَن، كَانَ لَهُ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدٌ أن يُدْخله الجنةَ، ومَن لَم يأتِ بِهِن، فَلَيْسَ لَهُ عِنْدَ الله عَهْدٌ إنْ شَاءَ عَذبَهُ، وإن شَاءَ أَدْخَلَهُ الْجَنَّةَ»، فإنما يستحق الرجل بتضييع الصلوات اسم الفسق، لا اسم الكفر. وقوله في الحديث: كَان لَهُ عِنْدَ اللَّهِ عَهْد أَن يدخله الجنة، معناه: ابتداءً دون أن يعذبه بإدخال النار، وقوله: فَلَيْس لَهُ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدٌ إن شَاءَ عَذبَهُ، وإن شَاءَ أَدْخَلَهُ الْجنًةَ معناه: إن شاء عذبه ثم أدخله الجنة، وإن شاء أدخله الجنة ولم يعذبه، لأن من مات على الِإيمان، فلابد له من دخول الجنة، لأنهُ إن دخل النار، فلابد أن يخرج منها بالشفاعة على ما تظاهرت به الآثار وبالله التوفيق.

.مسألة سؤال الناس النبي عليه السلام الاستقاء:

في سؤال الناس النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ الاستقاء وسمعت مالكاً يقول: «أُتي إلى النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ فقيل له: يَا نَبيَّ اللَّهَ: اسْتَسْقِ لَنَا فَدَعَا اللَّهَ لَهُم فَسُقُوا. ثمَّ لَمَّا كَانَ مِنْ قابِل، جَاؤُوهُ فَقَالُوا يَا رَسُولَ اللَّه: ادْعُ اللَّهَ أَنْ يَسْقِينَا، فَقَالَ: أَتُرِيدُونَ سَقْيَ الْكُفَّارِ؟».
قال محمد بن رشد: في هذا دليل على صحة رواية أبي المعصب عن مالك، إن الاستسقاء على سنة الاستسقاء من البروز إلى المصلى لا يكون إلا عند الحطمة الشديدة، ولا يؤثر عنه ولا عن أصحابه فيما علمت خلاف ذلك، فيحمل على البيان للمذهب، ويشهد لصحتهما أنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنمَا اسْتَسْقَى حِينَ جَاءَهُ الرَّجُلُ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّه: هَلَكَتِ الْمَوَاشِي وَانْقَطَعَتِ السبُلُ، فَادْعُ الله وبالله التوفيق.

.مسألة ما جاء في أن لله عباداً أهل عافية في الدنيا والآخرة:

قال مالك وبلغني أن النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ قال: «إنَّ لَلّهِ عباداً أَهْلَ عَافِيَةٍ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ».
قال محمد بن رشد: المعنى في هذا بين، إذ قد يكون الرجل يرزق المال الحلال فيعيش منه العيش الحسن، ويؤدي حق الله، ويقيم فرائضه من الصلاة والزكاة والصيام والحج، ويجتنب محارمه، ويعافيه الله في بدنه طول حياته، ثم يميته على الِإيمان، فيكون معافيه في الدنيا والآخرة وبالله التوفيق.

.مسألة الحلف بالله على الصدق:

في الحلف بالله على الصدق قال مالك: بلغني أن عيسى عليه السلام قال لقومه: إنَّ مُوسَى قَالَ لِقَوْمِهِ: لَا تَحْلِفُوا بِاللَّهِ إلاَّ وَأَنْتُم صَادِقُونَ، وَأَنَا أَقُولُ لَكُم لَا تَحْلِفُوا بِاللَّهِ صَادِقِينَ وَلَا كَاذِبِينَ، قُولُوا: بَلَى وَنَعَمْ.
قال محمد بن رشد: ظاهر قول عيسى ابن مريم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن شرعه مخالف لشرع موسى عَلَيْهِ السَّلَامُ قبله فيِ إباحة الحلف بالله عز وجل على الصدق، ومخالف لشرعنا أيضاً، لأن اللَّه تعالى قد أمر نبيه بالحلف باسمه في غير ما آيةٍ فقال: {قُلْ إِي وَرَبِّي} [يونس: 53]، وقال: {قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ} [سبأ: 3] وقال: قُلْ: {بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ} [التغابن: 7] وكان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كثيراً ما يحلف لَا وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، وَلَا وَمُقَلِّب الْقُلُوب. وَلا وجه لكراهة ذلك، لأن القصد إلى الحلف بالشيء تعظيم له، فلا شَك أن في ذكر الله تعالى على قصد التعظيم له أجراً عظيماً، ويحتمل أن يكون عيسى ابن مريم عَلَيْهِ السَّلَامُ إنما كره لهم اليمين بالله صادقين وكاذبين، مخافة أن يكثر منهم، فيكون ذريعةً إلى حلفهم بالله على ما لم يقولوه يقيناً أو يواقعوا الحنث كثيراً ويقصروا في الكفارة، فيواقعوا الإثم من أجل ذلك، لا من أجل اليمين بالله.
وقد مضى في آخر سماع أشهب من كتاب النذور، لتكرر المسألة هناك.

.مسألة وصية لقمان لابنه:

في وصية لقمان لابنه قال مالك: وبلغني أن لقمان قال لابنه: يا بُنَيِّ جَالِس الْعُلَمَاءَ، وَزَاحِمْهُم بِرُكْبَتِكَ، فَلَعَلَّ الرَّحْمَةَ تَنْزِلُ عَلَيْهِم فَتصيبك مَعَهُم، وقال له في الفجار، في مجالستهم، مثل ما قال له في العلماء في الرحمة لئلاَّ ينزل عليهم سخط فيصيبك معهم.
قال محمد بن رشد: المعنى في هذا بين واضح ليس فيه ما يشكل وبالله تعالى التوفيق.

.مسألة ما جاء في الِإبار:

قال مالك: «مَرَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِبَعْض الْحَوَائِطِ وَهُم يَأبرُون النَّخْلَ وَيُلَقِّحُونَهَا، فَقَالَ: مَا عَلَيْكُمْ أَلّاَ تَفْعَلُوا قالَ: فترك الناس الإبار في ذلك العام، فلم تطعم النخل، فشكوْا ذلك إلى رسول اللًّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: إِنَّما أنَا بَشَر، فَاعْمَلُوا بِمَا يُصْلِحُكُم».
قال محمد بن رشد: التلقيح وضع الذكور في الأنثى. وقد روي هذا الحديث بألفاظ مختلفة، يقرب بعضها من بعض منها: أنه قال: «مَا أَظنّ هَذَا يُغْنِي شَيْئاً وَلَوْ تَرَكُوهُ لَصَلُحَ، أَوْ لَا لِقَاحَ، أَوْ مَا أَرَى اللِّقاح شَيْئاً فتركوه فشيص فأخبر به رسول اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: مَا أنَا بِزَارِعٍ وَلَا صِاحِبِ نَخْلٍ، لَقِّحُوا أو قال: إنَّمَا ظَنَنْتُ ظَنّاً، وَالظَّنُّ يَخْطِئُ وَيُصِيبُ أَو لا تؤاخِذُوني بِالظَّنِّ، وَلَكِن إذَا حًدّثْتًكُم عَنِ اللَّهِ شَيْئاً فَخُذُوهُ، فَإنِّي لَنْ أكْذِبَ عَلَى اللَّهِ». فقال الطحاوي فيما روي من ذلك كله: إنه ليس باختلاف تعارض، وإنما معناه أنه قال ما قال من ذلك لقوم بعد قوم، فحكى كل واحد منهم ما سمع، ولم يكن صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ممن يعاني ذلك ولم يكن من بلد فيه نخل، فاتسع له أن ينفي ما توهم بالظن استحالته، وهو أن يكون الِإناث من غير الحيوان يأخذن من الذكور شيئاً، ولم يكن ذلك إخبار منه عن وحي. هذا معنى قول الطحاوي والذي أقول به في ذلك إنه إنما قال للذين رآهم يأبرون النخل ويلقحونها ما قال لهم مما روي عنه في ذلك أنه قاله لهم لما علمه من أنه لا تأثير لشيء من المخلوقات في شيء منها بإفساد ولا إصلاح. وإنما الله هو المفسد المصلح، الفاعل لكل شيء، إلا أنه تعالى قد أجرى العادة بأن يفسد من المخلوقات، وأن يصلحها عند مباشرة غيرها لها، ويعلم ذلك من الناس من جرَّبه، فوجد العادة مستمرة عليه، كالأطباء الذين يعلمون الأدوية النافعة من الضارة لتجربتهم وتجربة من تقدم من أسلافهم، ولا يسلم من ذلك سواهم ممن لم يجرب من ذلك ما جربوه، فكذلك إبار النخل وتلقيحه، علِم الانتفاع به من جربه من أهل النخل بطول التجربة، ولم يعلمه النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ إذ لم تتقدم له به تجربة، فقال لهم ما قال، مما هو مذكور في الآثار. وقولي كالأطباء الذين يعلمون الأدوية النافعة من الضارة، تَجَوُّزٌ في العبارة، إذ ليس الأدوية على الحقيقة بنافعة ولا ضارة، وإنما النافع والضار الله رب العالمين.

.مسألة حكم الصفرة للرجل:

في إنكار النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ الصفرة للرجل، وإقادته من نفسه قال مالك: «رَأَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلاً فيه أثَرُ صُفْرَةٍ، فَطَعَنَهُ بقدحٍ كَانَ مَعُه، فَقَالَ: له: أوْجَعْتنِي يَا رَسُولَ اللَّهِ فَطَرَحَ الْقَدَحَ إلَيْهِ ثمَّ قَالَ لَهُ: اسْتَقِدْ فَقَالَ لَهُ الرجُل: إنَّ اللَّهَ بَعَثَكَ بِالْحَقِّ وَعَلَيْكَ قَمِيصٌ، وَلَيْسَ عَلَيَّ قميصٌ. قال: فَكَشَفَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْقَمِيصَ عَنْهُ فَجَعَلَ الرَّجُلُ يُقَبِّلَ ذَلِكَ الْمَوْضِعَ».
قال محمد بن رشد: قوله: وبهِ أثَرُ صُفرَة معناه والله أعلم وبه ودع من زعفران، ففي طعنِ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إياه لِما رأى به من ذلك على ما يدل عليه ظاهر الحديث، دليل على أن ذلك لا يجوز له، إذ لا ينكر على أحد ما يجوز له أن يفعله. وهذا نحو ما جاء عنه صلى الله عليه وسلم من رواية أنس بن مالك: «أنه نَهَى أن يَتَزَعْفَرَ الرَّجُلُ» وهو معارض لحديث أنس بن مالك في الموطأ أنَّ عَبْدَ الرَّحْمنِ بْنَ عَوْفٍ جَاءَ إِلَى رَسُول اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبِهِ أثرْ صُفْرَةٍ، فَسَألَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأخْبَرَهُ أنَّهُ تَزَوَّجَ. الحديث إلى قوله: أوْلِمْ وَلَوْ بشَاةٍ لأن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يُنكر عليه ما رأى به من أثر الصفرة، كما فعل بالرجل الذي طعنه بالقدح. ولتعارض هذه الآثار اختلف العلماء هل يكره للرجل أن يصفر لحيته بالزعفران، ويلبس الثياب المصبوغة؟ فذكر مالك في الموطأ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ أنَّهُ كَانَ يَلْبَسُ الثَّوْبَ الْمَصْبُوغَ بِالْمِشْقِ، وَالْمَصْبُوغَ بالزّعْفَرَانِ. وجاء ذلك عن جماعة من السلف، وأخذ به مالك وأصحابه، فأجازوا لباس الثياب المصبوغة بالزعفران للرجال.
وإنما كره ذلك مالك في الإِحرام. وقد سئل ابن شهاب عن الخلوق، فقال قد كان أصحاب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يتخلقون، ولا يرون بالخلوق بأساً. وكره الشافعي وأبو حنيفة وأصحابهما أن يصبغ الرجل ثيابه ولحيته بالزعفران. وقال ابن شهاب هذا جائز عند أصحابنا في الثياب دون الجسد، وهو قول ثالث في المسألة.
وإقادة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الرجل الذي طعنه بالقدح من نفسه تواضعاً منه لله بأن أعطى من نفسه ما لم يجب عليه، إذ لم يفعل به إلا ما كان له أن يفعله به، لمخالفته ما كان قد علمه من أمره والله أعلم. لكنه لما قال له: قدْ أوجعتني خشي أن يكون قد تجاوز القدر الذي كان أراده خطأً منه. والخطأ ليس بمسئول عنه، فتنحى من ذلك بالِإقادة من نفسه تطوعاً من غير أن يجب ذلك عليه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وقد روي «أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عدَّل صفوف أصحابه يوم بدر، وفي يده قدح يعدل به القوم فمر به ابن غزية حليف بني عدي ابن النجار وهو مستنصل من الصف فطعن في بطنه بالقدح، وقال: استوِ في الصف يا سواد، فقال: أوجعتني يا رسول الله وقد بعثك الله بالحق والعدل فأقدني قال: فكشف رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن بطنه. فقال. استقد. قال: فاعتنقه وقبل بطنه. فقال: مَا حَمَلَكَ عَلَى هَذَا يا سَوَادُ قال: يا رسول الله حضر ما ترى فأردت أن يكون آخر العهد بك أن يمس جلدي جلدك، فدعا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ له بخير وقاله».
وقع هذا الحديث في البر لابن هشام فإن كان حديث الجامع، على ما يدل عليه ظاهره من أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِنما طعن الرجل من أجل ما رأى به من الصفرة، فهو حديث آخَر، في رجل آخَر، ويحتمل أن يكون هو الحديث بعينه، ويكون المعنى فيه أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رأى الرجلَ يريد سواد بن غزية، وفيه أثر صفرة خارجاً عن الصف يوم بدر، فطعنه بقدح كان بيده، ليعتدل في الصف. الحديث. وقوله: فجعل الرجل يقبل ذلك الموضع، إشارة منه إلى الموضع الذي كشفه له ليستقيد منه. وبالله تعالى التوفيق.

.مسألة ما جاء من أن رسول الله لم ينتقم قط لنفسه:

فيما جاء من أن رسول الله لم ينتقم قط لنفسه قال مالك: بلغني «أن عائشة قالت: مَا انْتَقَمَ رَسُولُ اللهِ صلّي اللهُ عَلَيْهِ وَسلّمَ مِنْ شَيْءٍ قَطُّ أتَى إِلَيْهِ إِلّاَ أَنْ تُنْتَهَكَ حُرْمَةُ اللهِ فَيَنْتقِم لِلّهِ مِنْهَا».
قال محمد بن رشد: يشهد لما قالته عائشة قوله تعالى: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4] «وسئلت عائشة عن خُلقِ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم قالت: كَانَ خُلُقُهُ الْقُرْآنُ» تريد أنه كان جبل على ما حَض الله عليه في القرآن من العفو والصفح. والتفضل والإِحسان بقوله: {وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ} [البقرة: 237] {وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ} [القصص: 77] وقوله: {وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران: 134] فكان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يحلمُ عمن جهل عليه، ويعفو عمن ظلمه، فلا ينتقم إلا لله، وقد قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «بُعِثْتُ لأتَمِّم حسن الأخْلَاقِ» وبالله التوفيق.

.مسألة التحذير من الدخول في الفتن:

في التحذير من الدخول في الفتن قال مالك: وبلغني أن عبد الله بن عمرو بن العاص كان مجالس رجل من الأنصار يسمى أبا جُهَيْم، قال: فكان عبد الله ابن عمرو بن العاص يحدثه عن الفتن، فلما كانت الفتنة، بلغ أبا جهيم الذي كان من عبد الله بن عمرو بن العاص. قال: دخل فيما دخل فيه. وقد كان يحدثني بما يحدث به في الفتن. إن لله علي أَلَّا أكلمه أبداً. قال: فقدم عبد الله بن عمرو بن العاص فلقي الرجل فكلمه فأبى ثم كلمه فأبى فقال عبد الله: أنَا أعْرِفُ لم تركت كلامي لما كنت أُحدثك؟
قال محمد بن رشد: أبو جُهَيم هذا هو والله أعلم عبد الله بن جهيم الأنصاري الذي روى عن النبي عليه السلام في المارِّ بَيْنَ يَدَي الْمُصَلي أنَّهُ لَوْ عَلِمَ مَا عَلَيْهِ فِي الْمُرُورِ بَيْنَ يَدَيْهِ لَكَانَ أنْ يَقِفَ أرْبَعِينَ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أن يَمُرَ بَيْنَ يَدَيْهِ ويحتملّ أن يكون أبو جهيم بن الحرث بن الصمة الأنصاري الذي روى عن النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ أنه أتى من نحو بير جمل، فلقيه رجل فسلم عليه، فلم يرد عليه شيئاً، حتى أتى على جدار، فمسحَ بوجهه ويديه، ثم رد عليه. وعبد الله بن عمرو بن العاص من فضلاء الصحابة، ولد لأبيه عمرو وهو ابن بضع عشرة سنة، وأسلم قبله، وكان يسرد الصوم، ويقوم الليل، فشكاه أبوه إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ لِعَيْنِكَ عَلَيْكَ حَقّاً، وإن لأهْلِكَ عَلَيْكَ حَقّاً وَإِنَّ لَزَوْجك عَلَيْك حَقاً قُمْ وَنَمْ وَصُمْ وأفْطِرْ صُمْ ثَلَاثَةٌ أيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ، فَذَلِكَ صِيَامُ الدَّهْرِ، قَالَ: فَإنِّي أطِيقُ أكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَلَمْ يَزَلْ يُرَاجِعُهُ في الصِّيَام حَتَى قَالَ لَهُ: لَا صَوْمَ أفضَلُ مِنْ صَوْم دَاوُودَ يَصُومُ يَوْماً وَيُفْطِرُ يَوْماً» «ونازل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أيضاً في ختم القرآن فقال: اخْتمْهُ في شَهْرٍ، فَقَالَ: إِنِّي أطِيقُ أفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ، فَلَمْ يَزَلْ يُرَاجِعه حَتَّى قَالَ: لَا تَقْرَأهُ فِي أقلَّ مِنْ سَبْع» وروي في أقلَّ مِنْ خَمْسٍ والأكثر على سبع.
فوقف عند ذلك فكان لَمَّا أسنَّ يقول: وددت أنَّي قبلت رخصة رسول الله عَلَيْهِ السَّلَامُ. والذي كان يحدث به أبا جُهَيم عن الفتن هو ما روي عن النبي عليه السلام من التحذير منها نحو قوله: «سَتَكُونُ فِتَنٌ الْقَاعِد فِيها خَيْر مِنَ الْقَائِم، وَالْقَائِمُ فِيهَا خَيْرٌ مِنَ المَاشِي، وَالْمَاشِي فِيهَا خَيْرٌ مِنَ الساعِي مَن تَشَرَّفَ لَهَا تَستَشْرِفُه وَمَنْ وَجَد فيهَا مَلْجأً وَمَعَاذَاً فَلْيَعُذْ بِهِ.» وقوله: «لَا تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفِّاراً يَضرِب بَعْضُكُم رِقَابَ بَعْضٍ» وما أشبه ذلك من الآثار المروية في ذلك عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فإِنه كان حافظاً لآثاره، لأنه استأذن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يكتب حديثَه فأذِنَ له في ذلك، فكان واقفاً عليه وحافظاً له. والذي دخل فيه من أمر الفتنة وهجره عليه أبو جُهيم، هو شهوده صفين وقتاله مع معاوية. وقد ذكر أنه كانت بيده الراية يومئذ، وليس ذلك مما يقدح في عدالته، لأنه لم يفعل ذلك إلا وهو على بصيرة من أمره فيما أداه إليه اجتهاده.
وقد روي أنه اعتذر من ذلك وأقسم أنه لم يرم فيها برمح ولا بسهم، وأنه إنما شهدها لعَزْم أبيه عليه في ذلك، وأن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال له: «أطع أبَاكَ». وإنما أطاعه بما عرض عليه من الحجة التي ظهرت عليه حينئذ، لا أنّه أطاعه ويعتقد أنه على خطأ. هذا ما لا يحل أن يتأول عليه رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لأنه لا طَاعَةَ لأَحدٍ في مَعْصِيَةِ الْخَالِقِ ثم اعتذر بعد ذلك من الأمر، إذ ظهر له خلاف رأيه الأول فيه، فهو محمود في كِلتي الحالتين، وَعتْبُ أبي جُهيم عليه، إنما كان إذ لم يتورع عن ذلك. وقد كان في سعة منه. وإن كان يرى حينئذ أن معاوية على صواب لأنه رآه مغرراً إذ من يقاتل على الاجتهاد فيما لا نص فيه، فقد تذكره البصيرة في خلاف رأيه، وهو قد نشب في القتال، فتذكره الحمية مما دخل فيه من القتال فيتمادى عليه، فيكون قد وقع في الحرج، والتوقي من ذلك هو الحظ، كفعل أحد ابني آدم، إذ قال لأخيه: {لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لأَقْتُلَكَ} [المائدة: 28] ولا شك أنه رجع إلى تكليمه إذ بين له الوجه الذي دخل فيما دخل فيه من أجله، فهو الذي يدل عليه قوله له: أنا أعرف لما تركت كلامي لما كنت أحدثك به، لأن المعنى في ذلك، أنا أعرف ذلك، وإنما دخلت فيما دخلت فيه لوجه كذا والله أعلم.